الجمعة، 24 نوفمبر 2017

قراءات في كليات رسائل النور لصاحبها بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله

القراءة الأولى: في معانـــي البسملة

البسملة هي مفتاح كل عمل في الدين والدنيا، وباب الدخول إلى كل عبادة، والطريق إلى نيل السعادة، وهي سبب البركة لكل الأعمال، وتركها موجب للمحق والقطع ونقص بعد الزيادة، وذلك ما جاء عن رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم القائل في حديثه الذي رواه الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه:" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم  الله الرحمن الرحيم فهو أقطع " (1)
ولهذا فقد أدرك الإمام بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله فضل البسملة، ووقف على أسرارها الدفينة، ومعانيها السامية، وتعمق في قوة تأثيرها الروحي على النفس البشرية، ومما تميز به الإمام النورسي في كتاباته ورسائله هو ضرب الأمثال والقصص التي يستخلص منها الإنسان العبر والدروس في حياته الدنيوية وفي مآله يوم القيامة، فكل كلمة من كلماته رحمه الله تحمل في طياتها أمثالا بديعة، ومعاني جليلة، وليس بمستغرب على من تبحر في أعماق كلام الله تعالى، وسبر أغوار معانيه، أن يغفل عن أهمية القصص والأمثال في القرآن الكريم.
يقول رحمه الله في مستهل كلمته الأولى مخاطبا نفسه وموجها خطابه لجموع المؤمنين والمؤمنات:
(فإن كنتِ راغبة في إدراك مدى ما في "بسم الله " من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب، فاستمعي إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة : إن البدوي الذي يتنقل في الصحراء ويسيح فيها لابد له أن ينتمي إلى رئـيس قبيلـة، ويدخل تحت حمايته، كي ينجو من شر الأشقياء، وينجز أشغاله ويتـدارك حاجاتـه، وإلاّ فسيبقى وحده حائراً مضطرباً أمام كثرة من الأعداء، ولا حد لها من الحاجات، وهكذا.. فقد توافق أن قام اثنان بمثل هذه السياحة؛ كان أحدهما متواضعاً، والآخـر مغروراً، فالمتواضع انتسب إلى رئيس، بينما المغرور رفض الانتسـاب. فتجـولا في هـذه الصحراء.. فما كان المنتسب يحل في خيمة إلا ويقابل بالاحترام والتقدير بفضل ذلك الاسم وإن لقيه قاطع طريق يقول له ": إنني أتجول باسم ذلك الرئيس ".. فيتخلى عنه الشقي. أمـا المغرور فقد لاقى من المصائب والوي لات ما لا يكاد يوصف، إذ كان طوال السفرة في خوف دائم ووجل مستمر، وفي تسول مستديم، فأذلّ نفسه وأهانها.  فيا نفسي المغرورة  اعلمي.. انك أنت ذلك السائح البدوي. وهذه الدنيا الواسعة هي تلك الصحراء. وان "فقرك" " و عجزك" لا حد لهما، كما أن أعداءك وحاجاتك لا نهاية لهما، فما دام الأمر هكذا؛ فتقلدي اسم المالك الحقيقي لهذه الصحراء وحاكمها الأبدي، لتنجـي من ذُلّ التسول أمام الكائنات، ومهانة الخوف أمام الحادثات.) (2)
فهذا تشبيه بليغ، وتمثيل رفيع لصنفين من العباد، أحدهما استمسك بحبل الله المتين، وتسلح باسم الله العظيم، سائرا في الدنيا سير المطمئن بنجاته من كل ما يعترض طريقه، وموقنا أنه ملتجئ إلى باب الآمان والسلام، ومتكئ إلى ركن شديد لا تصل إليه يد العبيد، فهو مثل ذلك الجندي الذي انخرط في سلك الجندية يتكلم ويعمل باسم الدولة، فلا يمكن لأحد أن يعارضه أو يمتد إليه بسوء.
وأما الآخر فهو مغرور بنفسه وقوته، فلا ينتسب إلى رئيس دولة، ولا يتكلم باسم زعيم قبيلة ليحمي نفسه، ويدافع عنها من بلايا الطريق، ومكر الأعداء، فكانت النتيجة أن صادف من المتاعب ما لا يوصف، وسار في طريقه خائفا مرتعشا، حتى أمسى ذليلا ضعيفا.
ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض.
إن كل المخلوقات تنطق باسم الله خالقها العظيم، وتسبح بحمده، وتمجده في كل لحظة، فما بال هذا الإنسان يتلكأ في الانصياع لأوامر خالقه المتفرد بالعظمة، ويستعطف غيره من المخلوقات الضعيفة، ويترك الاعتصام باسمه الأعظم.
وهكذا يخاطب بديع الزمان النورسي هذه النفس المغرورة فيقول لها:
"فيا نفس..إن شئت ألا تقعي في مثل هذه البلاهة؛ فلتعطي باسم الله.. ولتأخذي باسم الله..ولتبدئي باسم الله..ولتعملي باسم الله..(3)
أمر للنفس وإرغام لها على ذكر الله في كل وقت، وعند بدء كل عمل حسن، وتوطينها عن الغفلة عن ذكره سبحانه، لأن الإنسان الذي يغفل عن ذكر الله، ويترك نفسه تجره إلى الجحود بالنعم، مصيره هو الهلاك والخسران.
وفي ختام كلمته الأولى، يتساءل الإمام سعيد النورسي رحمه الله مع نفسه، مبديا استنكاره فيقول:
" إننا نبدي احتراماً وتوقيراً لمن يكون سبباً لنعمة علينا، فيا ترى ماذا يطلب منـا ربنا الله صاحب تلك النعم كلها ومالكها الحقيقي؟ الجواب إن: ذلك المنعم الحقيقي يطلب منا ثلاثة أمور ثمناً لتلك النعم الغالية : الأول: الذكر.. الثاني: الشكر.. الثالث: الفكر .. فـ "بسم الله " بدءاً هي ذكر، و "الحمد الله " ختاماً هي شكر، وما يتوسـطهما هـو "فكر" أي التأمل في هذه النعم البديعة، والإدراك بأنها معجزة قدرة الأحد الصـمد وهـدايا رحمته الواسعة... فهذا التأمل هو الفكر."(4)
فالبسملة إذن، تحمل معاني الذكر والشكر والتفكر، فبدايتها ذكر لله سبحانه وتعظيم لاسمه، وأوسطها فكر أو تفكر في نعمه الظاهرة والباطنة، وختامها شكر وحمد له على ما أنعم وتفضل ووهب من عطايا.
=======

البشير أسعير
باحث مغربي
كلية الآداب فاس - سايس

الهوامش:
(1) رواه الإمام أحمد في " المسند " (14/329) طبعة مؤسسة الرسالة ، وآخرون كثيرون من أصحاب السنن والمسانيد.
(2) الكلمات، من سلسلة كليات رسائل النور، بديع الزمان النورسي،  ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، ص: 1 – 2.
(3) كلمات صغيرة، للمؤلف نفسه، إسطنبول آذار (مارس) 2014، الطبعة الثانية، ص:11.
(4) الكلمات، ص:3.
تجليات اللاتسامح في تاريخ المسلمين وأسبابه
أسعير البشير – كلية الآداب سايس - فاس

أ‌-    تجليات اللاتسامح في تاريخ المسلمين:
إن ظاهرة اللاتسامح الديني التي يسلكها بعض المنتسبين إلى دين الإسلام، ليست من طبيعة هذا الدين، وإنما هي دخيلة على تاريخه وثقافته السمحة، وما وقع من تجاوزات في تاريخ المسلمين (1) ينبغي أن نعتبره من الحوادث الشاذة، ولا نعطيها مساحة أكبر في مخيلتنا، على اعتبار أن الأصل في تاريخ الإسلام ككل هو التسامح مع الغير، والمحبة والعدل، وكل قيم الخير التي هي أساس بنيانه القويم.
وكل أشكال التطرف والتعصب الديني التي ظهرت في تاريخ الأمة الإسلامية هي حالات ظرفية، نمت وترعرعت في أماكن يسودها الجهل، ويطغى عليها التجاذب الطائفي، والتقسيم العرقي، فكل طائفة تدَّعي امتلاك الحق، وترى في  الأخرى أنها على باطل، وبدل أن يكون الحوار هو الفيصل، كان الطريق السهل هو اللجوء إلى التكفير والعنف، والعنف المضاد.
إن الحقيقة هي أن الأصولية الإسلامية التي تمثل آخر محطة لنا في رحلتنا في دروب اللاتسامح الديني، قد خدعت الجميع، فقد أصبحت أهم حدث في القرن الواحد والعشرين، وربما أشهر من ميلاد الصين، ومن ميلاد كيان الاتحاد الأوروبي ومن العولمة الاقتصادية.(2)
 يمكن أن نأخذ على سبيل المثال تنظيمي القاعدة وداعش اللذين ينطلقان من خلفية دينية متشددة، حيث يختزلان الإسلام في المشروع الجهادي العالمي الذي يتضمن قتال الكفار، وملاحقة من يواليهم في الشرق والغرب، ولعل اتكاء هذين التنظيمين على ركيزة الدين، أعطاهما شرعية في نظر فئة عريضة من المتدينين الشباب في العالم العربي والإسلامي، وقد نجح  زعماء التنظيمين في تصوير الغرب لأتباعهم على أنه رمز لكل الشرور، خصوصا بعد انهيار الشيوعية، وتمكنوا من استقطاب عدد كبير من الشباب لصفوفهم من أجل تسخيرهم في المشروع الجهادي –حسب تعبيرهم-  وذلك من أجل التصدي للتحالف الصليبي الزاحف نحو أراضي المسلمين، واستهداف من يدعمه ويواليه من الأنظمة العربية والإسلامية.
إزاء هذا الفهم الضيق للإسلام الذي يتمسك به ثلة من المحسوبين على هذا الدين، وأمام الخلط البشع الذي ينهجه غير المسلمين بين كثير من المفاهيم الدينية والسياسية، علينا أن نكشف الحقيقة التي يحاولون طمسها، وهي الفرق الشاسع بين مفهومي المقاومة أو الجهاد لرد العدوان، وبين الإرهاب غير المشروع، فما يمارسه بعض المتدينين من سفك للدماء باسم الدين، هو أمر لا يقبله عقل ولا شرع، ولا يدخل في مسمى الجهاد المشروع، ولذلك فإننا نجد خصوم الإسلام يسعون إلى استغلال كل سلوك سيء من بعض الجماعات المسلحة للتشكيك في سماحة الإسلام، وهم يعملون على تغيير المفاهيم لصالحهم، كما هو الشأن بالنسبة لمفهوم "الإرهاب"، لأن التصدي للعدوان الخارجي أمر مشروع وواجب في العقيدة الإسلامية، بينما الإرهاب بما يحمله من عنف وكراهية وقتل للأبرياء أمر مرفوض عقلا وشرعا.
إن ارتكاب بعض المتنطعين جرائم قتل وإرهاب باسم الإسلام، يعد في حد ذاته جريمة أكبر، وتحميلا للدين ما لا يتحمل، فرسالة الإسلام هي رحمة للعالمين، ولم تنزل وبالا على الكافرين، وقد ورد النهي القاطع في نصوص الشريعة الإسلامية عن قتل النفس إلا بالحق، ولكن بسبب سوء الفهم، وإتباع الهوى، وقع الجاهلون بتعاليم الإسلام السمحة في الأخطاء، وتمادوا في ضلالهم، وحادوا عن المنهج الرباني الرحيم.
ب‌-          أسبابـــــــــــــــــــــه:
يمكن عرض بعض الأسباب التي أدت ببعض المنتسبين للإسلام إلى السقوط في مصيدة التعصب واللاتسامح ضد الآخر في ما يلي:
-الجهل بحقيقة الإسلام، والتركيز على المتشابهات في النصوص، وسوء فهم مقاصد الشريعة.
- عدم الإلمام الكافي بعقيدة الآخر، وثقافته، ونمط تفكيره.
-مواجهة الآخر بنفس السلوك، وعدم التحلي بأخلاق الإسلام الداعية إلى الصبر  وتحمل الأذى، والحوار والمجادلة بالتي هي أحسن.
-الخلط بين المفاهيم، وعدم وضوح الرؤية.
- التمسك بحرفية النصوص الشرعية، وعدم إعمال مقاصد الشريعة في تنزيلها.
-توظيف الدين لأغراض سياسية، ومصالح دنيئة.
الهوامش:
(1)        لا بد من التفريق بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين، فالإسلام هو عبارة عن نصوص مقدسة مصدرها هو الوحي الإلهي، أما المسلمين فإنهم بشر مثل سائر البشر يخطئون ويصيبون، ولا ينبغي تحميل أخطاء البشر للنص المقدس، لأن ذلك لا يستقيم، فالمشكلة ليست في الدين بل في ممارسات المنتسبين إليه.
(2)      مايكل انجلو ياكوبوتشي، أعداء الحوار: أسباب اللاتسامح ومظاهره، تقديم: امبرتو ايكو، ترجمة: عبد الفتاح حسن، سلسلة الفكر، مكتبة الأسرة، ص:329

النماذج الثلاثة للطغيان على ضوء آيات القرآن

خلق الله تعالى النفس البشرية، وأودع فيها خصال الخير والشر لقوله تعالى:(فألهمها فجورها وتقواها)(1)، وجعل فلاح العباد في الآخرة منوط بإصلاحها، وتقويم اعوجاجها، وجعل خسرانهم في إهمالها وتركها سائمة في بحور الأهواء والمعاصي، لقوله تعالى:(قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)(2).
ولأهمية النفس البشرية وخطورة أمرها، فقد بين الله تعالى الأمراض التي تصيبها، ووضع سبحانه السبل الكفيلة لعلاجها، وتزكيتها حتى تصبح نفسا مطمئنة لقوله تعالى:(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية)(3).
ومن الآفات التي تصيب النفس البشرية، آفة الكبر والاستعلاء على الآخرين، والغرور والطمع، والحرص على الدنيا، عن طريق التملك غير المشروع، و كل مظاهر الطغيان والغطرسة التي تظهر في المجتمعات البشرية.
وإذا تأملنا آيات القرآن الكريم، سنجد فيها بيانا شافيا، وتفصيلا كافيا لكل هذه الآفات والأمراض التي تصيب النفس الإنسانية، خاصة إذا قرأنا ما وقع للأمم والأقوام السابقة في التاريخ الإنساني من وقائع، وما أصابهم من مصائب وعقوبات إلهية، بسبب هذه الأمراض التي نمت شيئا فشيئا وتفشت فيهم، وأحدثت فيهم نوازع الشر، وحب التسلط والطغيان في الأرض.
ولعل مرد هذا الطغيان والفساد في الأرض، يرجع بالأساس إلى نماذج ثلاثة، وهذه النماذج بدورها تأسست على كلمات ثلاث، وقد وردت في القصص القرآني على لسان أصحابها الذين أصابهم الكبر والاستعلاء، واستمالهم حب التسلط و الطغيان، ولعب بهم الفخر والغرور، فهي إذن كلمات ثلاث قد لا يلقي لها المرء بالا، لكن الشيطان قد يتخذها مدخلا سهلا للسيطرة على بني آدم، والتحكم فيه، وتسخيره ليكون أداة للفساد في الأرض والبغي بغير حق، فالكلمة الأولى(أنا) جاءت على لسان إبليس لعنه الله، والكلمة الثانية (لي) جاءت على لسان فرعون الطاغية، وأما الكلمة الثالثة (عندي) فجاءت على لسان قارون الذي اشتهر بثروته الضخمة، وكل هذه الكلمات تحمل علامات الكبر والاستعلاء والغرور.
1) إبليس المتمرد:
يكشف لنا القرآن الكريم عن قصة تمرد إبليس على أمر الله تعالى، وذلك حينما أمره بالسجود لآدم عليه السلام، بعدما خلقه بيده وصوره في أحسن صورة وأجمل هيئة، ونفخ فيه من روحه، فأراد أن يكون خليفة له في الأرض، فأمر سبحانه ملائكته المقربين بالسجود لآدم عليه السلام تشريفا وتكريما له، وكان إبليس ضمن الملائكة، قال الله تعالى:" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"(4) وقد كان الجن يسكنون الأرض قبل خلق آدم ، وكانوا قد أحدثوا قتلا كبيرا وفسادا في الأرض، فسلط عليهم الله تعالى ملائكته فأهلكوهم، ولذلك فالملائكة في محاورتهم لله سبحانه، راعوا هذا الأمر أي احتمال وقوع الإفساد في الأرض مرة ثانية، لكن الله تعالى هو العليم الخبير بخلقه، رد عليهم بقوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"(5)
وجاء الاختبار الإلهي للملائكة ومعهم إبليس بالسجود لآدم عليه السلام، فسجد الملائكة وامتنع إبليس عن السجود، وكان امتناعه عن السجود بسبب تكبره على الله سبحانه، وافتخاره على آدم عليه السلام بعنصره الناري، وهذا هو أصل العنصرية المقيتة التي هي سبب كل البلايا والحروب على وجه الأرض.
قال تعالى:"وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين"(6) وقال سبحانه:" إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سوَّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"(7)، وقال أيضا:"وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا"(8)
وجاء في تفسير هذه الآية: "قال أنا خير منه"أي قال اللعين: أنا خير من آدم وأشرف وأفضل"خلقتني من نار وخلقته من طين" أي: لأنني مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الطين، والنار خير من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟(9)
فإبليس افتخر على آدم عليه السلام بعنصره، لأن الله تعالى خلق إبليس من نار لأنه من الجن، بينما خلق آدم من طين، ولذلك فإبليس احتقر آدم بسبب عنصره الطيني، ولم يرض أن يسجد له، لأنه رأى في نفسه تفوقا عنصريا على آدم، فاستخدم الأنا الدالة على الاستعلاء والكبرياء، ف" قال أنا خير منه "وهذا هو مدخل الغرور والتكبر على الآخر، والتجبر والطغيان في الأرض.
إن أعظم ما يصيب النفس البشرية هو الكبر الذي إذا استولى على الإنسان، كبله ومنعه من أن ينظر إلى حقيقة أصله، وإن أخطر آفة تتهدد الكيان البشري هي آفة الاستعلاء والعنصرية الجاهلية التي تجعل الإنسان يتمادى في غيه، ويصم آذانه عن سماع الحق، ويعرض عن سبيل الله.
ولا شك أن إبليس هو أنموذج للاستعلاء والكبر والفخر بالأصل في التاريخ بأكمله، وقد توعد إبليس البشرية -في حواره مع الله تعالى بعد طرده- بإغوائها وإثارة الفتن والنزاعات بينها، لقوله تعالى-على لسان إبليس-:"قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين"(10) وقوله تعالى أيضا:"قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا"(11)
لقد تحققت مكيدة إبليس بالبشرية، وظهرت نتائج إغوائه لها، فانتشرت النزاعات والحروب بين الجماعات والأفراد داخل البلد الواحد، وبين البلدان المجاورة بعضها البعض، وقامت مناوشات بين مختلف الطوائف والنحل، وعاودت العصبيات والقوميات الظهور بشتى ألوانها، وصار التفاضل بين بني البشر على أساس العرق واللون والمال، ولم يعد مبدأ المساواة -الذي أقره الإسلام منذ أربعة عشر قرنا- قائما في حياة الأمة الإسلامية، بل حل محله التفوق والامتياز على أساس العرق أو اللون أو المال، مما سبب في ظهور العنصرية البائدة، وأصبح القوي يأكل الضعيف، والأبيض يستعبد الأسود، والغني يستعلي على الفقير، وهكذا حلت الفوضى محل النظام، ورجع القوم إلى الضلال بعد أن هداهم الله تعالى إلى نور الإسلام.
2) فرعون الطاغية:
عرض القرآن الكريم قصة فرعون مع بني إسرائيل في أرض مصر، حيث بيَّن الله تعالى من خلالها قمة الطغيان التي بلغها فرعون، فأرسل إليه كلا من النبي موسى وأخيه هارون عليهما السلام ليعرضا عليه رسالة التوحيد السماوية، ويعظاه ويرشداه إلى طريق الحق، بعدما تجبر وأفسد في الأرض، وقتل من قتل من بني إسرائيل، وعذَّب من عذَّب منهم.
وقد وردت آيات كثيرة تُبيِّن الحالة النفسية لفرعون، والحديث الذي دار بينه وبين قومه في شأن النبي موسى عليه السلام، قال الله تعالى-على لسان فرعون-:"وقال فرعون ذروني أقتل موسى"(12) أي قال فرعون الجبار: اتركوني حتى أقتل لكم موسى"وليدع ربه"(31) أي و ليناد ربه حتى يخلصه مني، وإنما ذكره على سبيل الاستهزاء، وكأنه يقول: لا يهولنكم ما يدَّعيه من ربه، فإنه لا حقيقة له، وأنا ربكم الأعلى، وغرضه أن يوهمهم بأنه إنما امتنع عن قتله، رعاية لقلوب أصحابه.(14)
ويأتي تفصيل كلام فرعون في آية أخرى، حيث يقول الله تعالى:"إني أخاف أن يبدِّل دينكم"(15) أي إني أخشى أن يُغيِّر ما أنتم عليه من عبادتكم لي إلى عبادة ربه،
"أو أن يظهر في الأرض الفساد" (16) أي: أو أن يثير الفتن والقلاقل في بلدكم، ويكون بسببه الهرج، وهذا كما قال المثل"صار فرعون واعظا"(17)
وهذا في حد ذاته كلام كل الطغاة والفراعنة في زماننا هذا لمن يخالفهم الرأي، فحجتهم في التنكيل بمخالفيهم هي أنهم يثيرون الفتنة في البلد، ويحرضون على القتل، وغيرها من الأقاويل المتهافتة.
وفرعون لما أخذته العزة بالإثم، ظن أنه وحده المتحكم في رقاب العباد، وأنه من يملك خزائن الأرض، ولذلك قال الله تعالى-على لسان هذا الطاغية-:" قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي"(18) أي قال مفتخرا متبجحا: أليست بلاد مصر الواسعة الشاسعة ملكا لي؟ وهذه الخلجان والأنهار المتفرعة من نهر النيل تجري من تحت قصوري؟(19) وقد أدى به طغيانه إلى احتقار نبي الله موسى عليه السلام، فقال تعالى-على لسانه-:"أم أنا خير من هذا الذي هو مهين"(20) أي بل أنا خير من هذا العبد الحقير، الذي لا عز له ولا جاه ولا سلطان، فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه؟ يعني بذلك موسى عليه السلام.(21)
وهذا شأن الطغاة في كل زمان وكان، فإنهم يظنون أنهم يملكون الأرض ومن عليها، ويتحكمون في رقاب العباد، لذلك تجدهم يتسلطون عليهم بالتنكيل والاضطهاد، ويتركون من خالفهم في السجون تحت سياط التعذيب، وإنما يفعلون بهم هذه الأفاعيل لسبب واحد هو أنهم لم يدركوا عظمة الخالق، وقوته وسلطانه عليهم، ولم يستفيقوا من غفلتهم عن وعيد الله للظالمين والمستكبرين في الأرض.


3) قارون المغرور:
  من المعلوم أن غاية القصص القرآني دائما هي تنبيه العباد إلى ما وقع للأقوام السابقة من ألوان العذاب الإلهي، بسبب استكبارهم في الأرض، وإكثارهم فيها الفساد، ليأخذوا العبر والدروس، وحتى لا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من الأخطاء الشنيعة.
ولقد عرض لنا القرآن الكريم قصة قارون بشيء من التفصيل والبيان، وقد مثل قارون أنموذجا فريدا في زمانه للمغرورين بثروتهم المالية، والمعجبين بأنفسهم على وجه الكبر والاستعلاء، وهذا ما جاء بيانه في أواخر سورة القصص.
وقصة قارون وهو من بني إسرائيل ذات صلة فكرية بقصة فرعون في السورة وهو من المصريين، وفيهما دلالة على أن سنة الله في عباده واحدة، فمن طغى وبغى أهلكه الله وعاقبه بما هو له أهل، والعبرة فيهما متشابهة.(22)
ولنتأمل ما ورد في شأن قارون من عبر ودروس قرآنية، إرشادا لأولي الألباب في كل عصر ومصر، يقول اله تعالى:( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون)(23)
لكن قارون تمادى في غروره وطغيانه، وصمَّ أذنيه عن سماع النصح الذي قدمه له قومه، واعتز بنفسه وأعجب بالثروة التي حصل عليها، وظن أنه سيخلد في الأرض، وسيتمتع بثروته دون يصيبه مكروه، وهذا من استدراج الله تعالى للإنسان الطاغي والمتكبر، فالله سبحانه يعطي الملك لمن يشاء، ويرزق من يشاء، لكن حسابه وعقابه شديد في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:(والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين)(24)، وكذلك ما ورد في الحديث النبوي المروي عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) قال:ثم قرأ:(وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) سورة هود:102(25)
ولذلك فقد نال قارون عقاب الله الشديد والعادل، بعد أن صد عن السبيل، كما قال تعالى:(فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)(26)، لأنه جحد نعم الله عليه، ولم يعترف بفضله عليه ، وسوَّلت له نفسه الكفر بعطاء الله له، وظن أن ما يملكه ليس من عند الله، فقال لقومه- بعد أن نصحوه- أن يرجع عن كفره: "إنما أوتيت هذا الذي أملكه مكافأة كونية لي على علم عندي بأسباب تحصيل الثروات، وحسن التدبير والتصرف في اكتساب الأموال والمنافع واللذات والزينات ومظاهر المجد والعظمة."(27) وهذا دأب كل مغرور بنفسه، ومتكبر في الأرض بغير حق، ولذلك نجد أن سنة الله تعالى في الكون لا تحابي أحدا، فمن أخذ بالسنن ، واعتبر بغيره، فقد نجا من طرق الهلاك الأبدي، ومن غفل عن هذه السنن، وتجاوز حدود الله سبحانه، وطغى، فقد جلب على نفسه الخسران الدنيوي والأخروي.
******************************************
أسعير البشير- طالب باحث – كلية الآداب سايس- فاس – المغرب
الهوامش:
(1)                     سورة الشمس، الآية:8
(2)                     سورة الشمس، الآيتين: 9-10
(3)                     سورة الفجر، الآية:30
(4)                     سورة البقرة، الآية: 30
(5)                     سورة البقرة، الآية: 30
(6)                     سورة البقرة، الآية: 34
(7)                     سورة ص، الآيات:71-76
(8)                     سورة الإسراء، الآية:61
(9)                     صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص: 65-66
(10)              سورة الأعراف، الآيتين:16-17
(11)              سورة الإسراء، الآية:62
(12)              سورة غافر، الآية:26
(13)              سورة غافر، الآية:26
(14)              صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص:99
(15)              سورة غافر، الآية:26
(16)              سورة غافر، الآية:26
(17)              صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص:100
(18)              سورة الزخرف، الآية:51
المجاهرون بالإفطار في رمضان بالمغرب: تعارض الحرية الشخصية مع الحريات العامة

إن الوقفة الاحتجاجية التي سبق أن نظمها بعض المغاربة أمام مقر البرلمان للاحتجاج على القانون المغربي المتعلق بتجريم الإفطار العلني في رمضان، تندرج ضمن سلسلة من المؤامرات المتكررة على وحدة المجتمع المغربي المسلم، والمخطط لها سلفا من جهات خارجية تسعى إلى تفكيك  البنية الروحية للمغاربة، وتحويلهم إلى قطعان غنم مفرقة، ولعل تكرار خروج هؤلاء المتظاهرين كل سنة مع حلول شهر رمضان يدل على أن تحركاتهم ليست بريئة، بل إنها مؤطرة فكريا وسياسيا وتخدم مصالح خارجية، كما أنه لا  يمكن أن نفصل بين مجموعة من الحوادث المختلفة التي وقعت في السنوات الفارطة بعدة مدن مغربية وبين خروج ما يعرف ب"وكالين رمضان" إلى الشارع العام، ففي السنة الماضية تابعت وسائل الإعلام الوطنية والأجنبية دخول فتاتين تحملان الجنسية الفرنسية  إلى المغرب ينشطن في الجمعيات النسائية العالمية التي يطلق عليها "الفيمينيزم Féminisme" حيث قامتا بالتعري العلني قرب صومعة حسان بالرباط، والتقطت لهما صورا تخدش الحياء العام، قبل أن يتم ترحيلهما من طرف السلطات المحلية.
دون أن ننسى حوادث أخرى مثل اعتقال "فتاة إنزكان" التي خرجت للشارع بلباس غير محتشم، وتكررت نفس الحادثة بأسفي، وعرفت مدن أخرى ما يسمى  بحركة الشواذ جنسيا، حيث تعرض أحدهم للضرب في مدينة فاس، وتم اعتقال آخرين في مدن أخرى، ونذكر أيضا قضية المطالبين بزواج المثليين، وأصحاب القُبَل الساخنة التي تم تداولها على شبكات التواصل الاجتماعي، ومجموعة "كيف كيف" الذين لا يتورعون في استفزاز المجتمع المغربي المسلم بتحركاتهم المشبوهة في الشارع، وكان آخرها أمام البرلمان حيث يطالبون من خلالها بالمساواة بين الجنسين في كل شيء، حتى وصل بهم الأمر إلى المطالبة بإعلان الشذوذ الجنسي، وزواج النساء بالنساء....الخ، وكل هذه القضايا تم تضخيمها إعلاميا من جهات معروفة بعدائها للدين، وواضح توجهها الفكري، وأيضا الأطراف التي تدعهما خارجيا.
إن المتتبع لكل هذه الحوادث الغريبة عن قيمنا الروحية، وعن ثقافتنا المغربية الأصيلة، سيلاحظ وجود ترابط عضوي بينها، بل إنها تحمل نفس الأهداف وإن اختلفت الوسائل، والأكيد أن كل هذه التحركات الشاذة في المجتمع المغربي يحاول أصحابها التأثير على أصحاب القرار، وتطويعهم لخدمة أهدافهم المنحرفة، بل ويستغلون عامل الحرية الممنوحة في البلاد للتظاهر كلما أتيحت لهم الفرصة، لكن إذا تأملنا جيدا في هذه القضايا، ونظرنا إليها في شموليتها سنجد بأنها مترابطة وخادمة لأهداف محددة، وأن أصحابها يسعون من ورائها إلى جس نبض الرأي العام المغربي، واستكشاف ردة فعله، ومدى تقبله لمثل هذه المطالب.
ولذلك فاختيارهم الخروج في هذا التوقيت له دلالات رمزية معينة، إذ  أن شهر رمضان له قدسية عند عموم المغاربة باعتبارهم مسلمين، وكلهم مجمعون على عدم السماح بانتهاك حرمته، ولهذا فإن تظاهر هؤلاء المجاهرون بالإفطار يدل على تعمدهم استفزاز المغاربة المسلمين، و زعزعة ثقتهم في ثوابتهم الروحية، مهما كانت نتيجة أفعالهم بعد ذلك، وواضح بأن تكرار هذه الخرجات المشبوهة يهدف أصحابها من وراء ذلك إلى محاولة إحداث انقسام في المجتمع المغربي، والعمل على توسيع دائرة المفطرين في رمضان في أفق تأسيس جمعية تدافع عنهم، وتتبنى مطالبهم، من أجل إدراجها ضمن حقوق الإنسان والحريات العامة.
إن ما يقوم به أصحاب هذا التيار الانهزامي لا يمكن أن ندرجه في إطار حرية المعتقد      – كما يزعم البعض – أو في إطار الحرية الشخصية التي تدافع عنها النظم الحداثية في العالم، لأن الشريعة الإسلامية كفلت للآخر المخالف حرية المعتقد، وحرية ممارسة شعائره التعبدية دون إكراه من أحد أو تضييق، ولكن مثل هذه التصرفات الغريبة تعتبر إساءة لثوابت الأمة الإسلامية، وسعيا مكشوفا لإثارة الفتنة في المجتمع المغربي المسلم، بدليل أنه لو كان هؤلاء في الحقيقة يرفضون صيام شهر رمضان فقط، فهذا يعد اختيارا منهم ولا أحد سيكرههم على الصيام، ولهم أن يتواروا عن الأنظار، أو يدخلوا بيوتهم فيوصدوها عليهم، ويفطروا كما شاءوا، لكن إصرارهم على الخروج إلى الشارع العام والمجاهرة بالإفطار، بل والمطالبة بإسقاط القانون الذي يجرم الإفطار، كل هذا يمكن اعتباره عملا مدروسا ومخططا له سلفا، لتأليب الناس وتحريضهم على العصيان، وانتهاك الحرمات الدينية في البلد، لأن المثل المشهور يقول:" حريتك تنتهي عند حرية الآخرين"، والحرية لا تعني الدوس على كل القيم والأخلاق المتعارف عليها في  المجتمع، وما يقوم به هؤلاء لا يدخل بتاتا في إطار الحرية الشخصية، فإن كانوا يعتقدون أن أفعالهم هذه تدخل في مسمى الحرية الشخصية، فعليهم أن يدركوا أن الغالبية العظمى من الشعب المغربي المسلم ضد هذه الحرية الشخصية لأنها تتعارض مع حرياتهم العامة.
========
أسعير البشير
طالب باحث