الجمعة، 24 نوفمبر 2017

النماذج الثلاثة للطغيان على ضوء آيات القرآن

خلق الله تعالى النفس البشرية، وأودع فيها خصال الخير والشر لقوله تعالى:(فألهمها فجورها وتقواها)(1)، وجعل فلاح العباد في الآخرة منوط بإصلاحها، وتقويم اعوجاجها، وجعل خسرانهم في إهمالها وتركها سائمة في بحور الأهواء والمعاصي، لقوله تعالى:(قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)(2).
ولأهمية النفس البشرية وخطورة أمرها، فقد بين الله تعالى الأمراض التي تصيبها، ووضع سبحانه السبل الكفيلة لعلاجها، وتزكيتها حتى تصبح نفسا مطمئنة لقوله تعالى:(يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية)(3).
ومن الآفات التي تصيب النفس البشرية، آفة الكبر والاستعلاء على الآخرين، والغرور والطمع، والحرص على الدنيا، عن طريق التملك غير المشروع، و كل مظاهر الطغيان والغطرسة التي تظهر في المجتمعات البشرية.
وإذا تأملنا آيات القرآن الكريم، سنجد فيها بيانا شافيا، وتفصيلا كافيا لكل هذه الآفات والأمراض التي تصيب النفس الإنسانية، خاصة إذا قرأنا ما وقع للأمم والأقوام السابقة في التاريخ الإنساني من وقائع، وما أصابهم من مصائب وعقوبات إلهية، بسبب هذه الأمراض التي نمت شيئا فشيئا وتفشت فيهم، وأحدثت فيهم نوازع الشر، وحب التسلط والطغيان في الأرض.
ولعل مرد هذا الطغيان والفساد في الأرض، يرجع بالأساس إلى نماذج ثلاثة، وهذه النماذج بدورها تأسست على كلمات ثلاث، وقد وردت في القصص القرآني على لسان أصحابها الذين أصابهم الكبر والاستعلاء، واستمالهم حب التسلط و الطغيان، ولعب بهم الفخر والغرور، فهي إذن كلمات ثلاث قد لا يلقي لها المرء بالا، لكن الشيطان قد يتخذها مدخلا سهلا للسيطرة على بني آدم، والتحكم فيه، وتسخيره ليكون أداة للفساد في الأرض والبغي بغير حق، فالكلمة الأولى(أنا) جاءت على لسان إبليس لعنه الله، والكلمة الثانية (لي) جاءت على لسان فرعون الطاغية، وأما الكلمة الثالثة (عندي) فجاءت على لسان قارون الذي اشتهر بثروته الضخمة، وكل هذه الكلمات تحمل علامات الكبر والاستعلاء والغرور.
1) إبليس المتمرد:
يكشف لنا القرآن الكريم عن قصة تمرد إبليس على أمر الله تعالى، وذلك حينما أمره بالسجود لآدم عليه السلام، بعدما خلقه بيده وصوره في أحسن صورة وأجمل هيئة، ونفخ فيه من روحه، فأراد أن يكون خليفة له في الأرض، فأمر سبحانه ملائكته المقربين بالسجود لآدم عليه السلام تشريفا وتكريما له، وكان إبليس ضمن الملائكة، قال الله تعالى:" وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"(4) وقد كان الجن يسكنون الأرض قبل خلق آدم ، وكانوا قد أحدثوا قتلا كبيرا وفسادا في الأرض، فسلط عليهم الله تعالى ملائكته فأهلكوهم، ولذلك فالملائكة في محاورتهم لله سبحانه، راعوا هذا الأمر أي احتمال وقوع الإفساد في الأرض مرة ثانية، لكن الله تعالى هو العليم الخبير بخلقه، رد عليهم بقوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"(5)
وجاء الاختبار الإلهي للملائكة ومعهم إبليس بالسجود لآدم عليه السلام، فسجد الملائكة وامتنع إبليس عن السجود، وكان امتناعه عن السجود بسبب تكبره على الله سبحانه، وافتخاره على آدم عليه السلام بعنصره الناري، وهذا هو أصل العنصرية المقيتة التي هي سبب كل البلايا والحروب على وجه الأرض.
قال تعالى:"وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين"(6) وقال سبحانه:" إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سوَّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"(7)، وقال أيضا:"وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا"(8)
وجاء في تفسير هذه الآية: "قال أنا خير منه"أي قال اللعين: أنا خير من آدم وأشرف وأفضل"خلقتني من نار وخلقته من طين" أي: لأنني مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الطين، والنار خير من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟(9)
فإبليس افتخر على آدم عليه السلام بعنصره، لأن الله تعالى خلق إبليس من نار لأنه من الجن، بينما خلق آدم من طين، ولذلك فإبليس احتقر آدم بسبب عنصره الطيني، ولم يرض أن يسجد له، لأنه رأى في نفسه تفوقا عنصريا على آدم، فاستخدم الأنا الدالة على الاستعلاء والكبرياء، ف" قال أنا خير منه "وهذا هو مدخل الغرور والتكبر على الآخر، والتجبر والطغيان في الأرض.
إن أعظم ما يصيب النفس البشرية هو الكبر الذي إذا استولى على الإنسان، كبله ومنعه من أن ينظر إلى حقيقة أصله، وإن أخطر آفة تتهدد الكيان البشري هي آفة الاستعلاء والعنصرية الجاهلية التي تجعل الإنسان يتمادى في غيه، ويصم آذانه عن سماع الحق، ويعرض عن سبيل الله.
ولا شك أن إبليس هو أنموذج للاستعلاء والكبر والفخر بالأصل في التاريخ بأكمله، وقد توعد إبليس البشرية -في حواره مع الله تعالى بعد طرده- بإغوائها وإثارة الفتن والنزاعات بينها، لقوله تعالى-على لسان إبليس-:"قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين"(10) وقوله تعالى أيضا:"قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا"(11)
لقد تحققت مكيدة إبليس بالبشرية، وظهرت نتائج إغوائه لها، فانتشرت النزاعات والحروب بين الجماعات والأفراد داخل البلد الواحد، وبين البلدان المجاورة بعضها البعض، وقامت مناوشات بين مختلف الطوائف والنحل، وعاودت العصبيات والقوميات الظهور بشتى ألوانها، وصار التفاضل بين بني البشر على أساس العرق واللون والمال، ولم يعد مبدأ المساواة -الذي أقره الإسلام منذ أربعة عشر قرنا- قائما في حياة الأمة الإسلامية، بل حل محله التفوق والامتياز على أساس العرق أو اللون أو المال، مما سبب في ظهور العنصرية البائدة، وأصبح القوي يأكل الضعيف، والأبيض يستعبد الأسود، والغني يستعلي على الفقير، وهكذا حلت الفوضى محل النظام، ورجع القوم إلى الضلال بعد أن هداهم الله تعالى إلى نور الإسلام.
2) فرعون الطاغية:
عرض القرآن الكريم قصة فرعون مع بني إسرائيل في أرض مصر، حيث بيَّن الله تعالى من خلالها قمة الطغيان التي بلغها فرعون، فأرسل إليه كلا من النبي موسى وأخيه هارون عليهما السلام ليعرضا عليه رسالة التوحيد السماوية، ويعظاه ويرشداه إلى طريق الحق، بعدما تجبر وأفسد في الأرض، وقتل من قتل من بني إسرائيل، وعذَّب من عذَّب منهم.
وقد وردت آيات كثيرة تُبيِّن الحالة النفسية لفرعون، والحديث الذي دار بينه وبين قومه في شأن النبي موسى عليه السلام، قال الله تعالى-على لسان فرعون-:"وقال فرعون ذروني أقتل موسى"(12) أي قال فرعون الجبار: اتركوني حتى أقتل لكم موسى"وليدع ربه"(31) أي و ليناد ربه حتى يخلصه مني، وإنما ذكره على سبيل الاستهزاء، وكأنه يقول: لا يهولنكم ما يدَّعيه من ربه، فإنه لا حقيقة له، وأنا ربكم الأعلى، وغرضه أن يوهمهم بأنه إنما امتنع عن قتله، رعاية لقلوب أصحابه.(14)
ويأتي تفصيل كلام فرعون في آية أخرى، حيث يقول الله تعالى:"إني أخاف أن يبدِّل دينكم"(15) أي إني أخشى أن يُغيِّر ما أنتم عليه من عبادتكم لي إلى عبادة ربه،
"أو أن يظهر في الأرض الفساد" (16) أي: أو أن يثير الفتن والقلاقل في بلدكم، ويكون بسببه الهرج، وهذا كما قال المثل"صار فرعون واعظا"(17)
وهذا في حد ذاته كلام كل الطغاة والفراعنة في زماننا هذا لمن يخالفهم الرأي، فحجتهم في التنكيل بمخالفيهم هي أنهم يثيرون الفتنة في البلد، ويحرضون على القتل، وغيرها من الأقاويل المتهافتة.
وفرعون لما أخذته العزة بالإثم، ظن أنه وحده المتحكم في رقاب العباد، وأنه من يملك خزائن الأرض، ولذلك قال الله تعالى-على لسان هذا الطاغية-:" قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي"(18) أي قال مفتخرا متبجحا: أليست بلاد مصر الواسعة الشاسعة ملكا لي؟ وهذه الخلجان والأنهار المتفرعة من نهر النيل تجري من تحت قصوري؟(19) وقد أدى به طغيانه إلى احتقار نبي الله موسى عليه السلام، فقال تعالى-على لسانه-:"أم أنا خير من هذا الذي هو مهين"(20) أي بل أنا خير من هذا العبد الحقير، الذي لا عز له ولا جاه ولا سلطان، فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه؟ يعني بذلك موسى عليه السلام.(21)
وهذا شأن الطغاة في كل زمان وكان، فإنهم يظنون أنهم يملكون الأرض ومن عليها، ويتحكمون في رقاب العباد، لذلك تجدهم يتسلطون عليهم بالتنكيل والاضطهاد، ويتركون من خالفهم في السجون تحت سياط التعذيب، وإنما يفعلون بهم هذه الأفاعيل لسبب واحد هو أنهم لم يدركوا عظمة الخالق، وقوته وسلطانه عليهم، ولم يستفيقوا من غفلتهم عن وعيد الله للظالمين والمستكبرين في الأرض.


3) قارون المغرور:
  من المعلوم أن غاية القصص القرآني دائما هي تنبيه العباد إلى ما وقع للأقوام السابقة من ألوان العذاب الإلهي، بسبب استكبارهم في الأرض، وإكثارهم فيها الفساد، ليأخذوا العبر والدروس، وحتى لا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من الأخطاء الشنيعة.
ولقد عرض لنا القرآن الكريم قصة قارون بشيء من التفصيل والبيان، وقد مثل قارون أنموذجا فريدا في زمانه للمغرورين بثروتهم المالية، والمعجبين بأنفسهم على وجه الكبر والاستعلاء، وهذا ما جاء بيانه في أواخر سورة القصص.
وقصة قارون وهو من بني إسرائيل ذات صلة فكرية بقصة فرعون في السورة وهو من المصريين، وفيهما دلالة على أن سنة الله في عباده واحدة، فمن طغى وبغى أهلكه الله وعاقبه بما هو له أهل، والعبرة فيهما متشابهة.(22)
ولنتأمل ما ورد في شأن قارون من عبر ودروس قرآنية، إرشادا لأولي الألباب في كل عصر ومصر، يقول اله تعالى:( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون)(23)
لكن قارون تمادى في غروره وطغيانه، وصمَّ أذنيه عن سماع النصح الذي قدمه له قومه، واعتز بنفسه وأعجب بالثروة التي حصل عليها، وظن أنه سيخلد في الأرض، وسيتمتع بثروته دون يصيبه مكروه، وهذا من استدراج الله تعالى للإنسان الطاغي والمتكبر، فالله سبحانه يعطي الملك لمن يشاء، ويرزق من يشاء، لكن حسابه وعقابه شديد في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:(والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين)(24)، وكذلك ما ورد في الحديث النبوي المروي عن أبي موسى- رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) قال:ثم قرأ:(وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) سورة هود:102(25)
ولذلك فقد نال قارون عقاب الله الشديد والعادل، بعد أن صد عن السبيل، كما قال تعالى:(فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين)(26)، لأنه جحد نعم الله عليه، ولم يعترف بفضله عليه ، وسوَّلت له نفسه الكفر بعطاء الله له، وظن أن ما يملكه ليس من عند الله، فقال لقومه- بعد أن نصحوه- أن يرجع عن كفره: "إنما أوتيت هذا الذي أملكه مكافأة كونية لي على علم عندي بأسباب تحصيل الثروات، وحسن التدبير والتصرف في اكتساب الأموال والمنافع واللذات والزينات ومظاهر المجد والعظمة."(27) وهذا دأب كل مغرور بنفسه، ومتكبر في الأرض بغير حق، ولذلك نجد أن سنة الله تعالى في الكون لا تحابي أحدا، فمن أخذ بالسنن ، واعتبر بغيره، فقد نجا من طرق الهلاك الأبدي، ومن غفل عن هذه السنن، وتجاوز حدود الله سبحانه، وطغى، فقد جلب على نفسه الخسران الدنيوي والأخروي.
******************************************
أسعير البشير- طالب باحث – كلية الآداب سايس- فاس – المغرب
الهوامش:
(1)                     سورة الشمس، الآية:8
(2)                     سورة الشمس، الآيتين: 9-10
(3)                     سورة الفجر، الآية:30
(4)                     سورة البقرة، الآية: 30
(5)                     سورة البقرة، الآية: 30
(6)                     سورة البقرة، الآية: 34
(7)                     سورة ص، الآيات:71-76
(8)                     سورة الإسراء، الآية:61
(9)                     صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص: 65-66
(10)              سورة الأعراف، الآيتين:16-17
(11)              سورة الإسراء، الآية:62
(12)              سورة غافر، الآية:26
(13)              سورة غافر، الآية:26
(14)              صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص:99
(15)              سورة غافر، الآية:26
(16)              سورة غافر، الآية:26
(17)              صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني، المجلد الثالث، ص:100
(18)              سورة الزخرف، الآية:51

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق